مشهد صباحي يدوّن اللحظة



صباح الجمعة جاء هذه المرة ممتدًا كجملةٍ لا ترغب أن تنتهي، دخلت الشمس غرفتي بهدوءٍ يشبه الطمأنينة، لم توقظني بسطوعها بل همست، تسللت خيوطها من بين فراغات الستارة واستقرت على الجدار، ثم انسحبت ببطء نحو سريري، كأنها توقظ فيّ شيئًا أعمق من الجسد، شيئًا اعتاد أن يصحو على الضوء لا على الصوت، فنهضت وأنا أشعر أن هذا الصباح كُتب لي وحدي، بلا استعجال ولا التزامات ثقيلة.


ذهبت إلى المطبخ وصنعت كوبًا من شاي التوت، تركته قليلًا ليأخذ لونه الكامل، كنت أراقبه وهو يتحول من ماءٍ شفاف إلى لونٍ دافئ، يشبه هذا الصباح تمامًا، رائحته ملأت المكان بهدوء، حملت الكوب بين يدي وعدت إلى غرفتي، إلى مكتبي تحديدًا، ذلك الركن الذي يشبهني أكثر مما أُظهر للآخرين، حيث تتكدس الكتب لا كزينة بل كشهود على أيامٍ مررت بها وأنا أبحث عن نفسي بين السطور.


ما زال أثر رواية كل أزرق السماء حاضرًا في داخلي، أنهيتها بالأمس، وما زلت أشعر أنني لم أغادرها تمامًا، بعض الروايات لا تُغلق بآخر صفحة، بل تبقى مفتوحة في القلب، تترك فينا شعورًا غامضًا يشبه الفقد، وكأننا نودّع أشخاصًا عاشوا معنا أكثر مما نعتقد، وقفت أمام مكتبتي أتأمل العناوين، وكنت أبحث عن كتاب لا لأقرأه فقط، بل لأكمل به هذا الصباح كما ينبغي.


وقعت يدي على صلاة القلق، الرواية التي بدأتها منذ ثلاثة أسابيع، لكنني لم أغص فيها كما يجب، لم أسمح لها أن تأخذني بالكامل، لذلك لم أحملها معي في السفر، تركتها هنا على المكتب، مقلوبة الصفحة، تنتظر عودتي بصبرٍ يشبه صبر الكتب التي تعرف أن لكل قارئ توقيته الخاص، وأدركت أنني ربما لولا اقتراب نهاية العام لما عدت إليها الآن، فنهايات الأعوام تجعلنا نراجع ما تركناه خلفنا، وتجبرنا بلطفٍ قاسٍ على إكمال الأشياء المؤجلة، وأنا بطبعي نادرًا ما أترك كتابًا دون أن أنهيه، ونادرًا ما أؤجل القراءة، فالكتب بالنسبة لي ليست هواية، بل التزامٌ وجداني، إما أن أعيشها كاملة أو لا أبدأها أبدًا.



كان الجو مشمسًا على غير عادة الشتاء، وأشعة الشمس انعكست على المكتبة، لامست ظهور الكتب واحدًا تلو الآخر، فبدت أكثر جمالًا، كأن الضوء أعاد ترتيبها، وكأن لكل كتاب ظلًا جديدًا لم أره من قبل، جلست إلى المكتب، وضعت كوب الشاي بجانبي، فتحت الرواية، وشعرت أن هذا هو الوقت الصحيح، أن بعض الكتب لا تتأخر، بل تنتظر أن نكون نحن في الحالة المناسبة لها.


في صباح الجمعة هذا، لم أكن أقرأ فقط، كنت أستعيد هدوئي، أرتب داخلي، وأسمح للشمس والكتب وشاي التوت أن يشكلوا مشهدًا صغيرًا، لكنه كافٍ ليجعل اليوم كله أخف، ويذكرني أن السكينة أحيانًا لا تحتاج أكثر من ضوءٍ صادق، وكتابٍ صبور، وقلبٍ مستعد أن يصغي. 


0 Comments