هذه الكلمات كُتبت في السيارة تحت زخّات المطر .
أقف على قارعة الطريق، لا لأن الطريق انتهى، بل لأن قلبي لم يعد يعرف كيف يكمل، كأن كل خطوة بعدك تحتاج إذنًا، وكأن الزمن صار أبطأ من أن أحتمله، والمطر يسقط على الزجاج كما لو أنه يطرق بابي أنا، لا الطريق، يطلب مني أن أفتح، أن أسمح لكل ما أخفيته أن يخرج دفعة واحدة، لأن الحزن حين يتراكم لا يرحل، بل ينتظر لحظة ضعف… والمطر هو تلك اللحظة.
كنتَ تحب المطر يا جدي، تحبه بصدق يشبهك، بفرحٍ لا يرفع صوته، بطمأنينة لا تشرح نفسها، كنا نركب السيارة، والمطر ينساب على الزجاج، وأنت تنظر أمامك وتبتسم، وكأن الحياة في تلك اللحظة كانت كاملة، وكأنك لم تكن بحاجة إلى شيء أكثر من صوت القطرات ليشعر قلبك بالرضا، وأنا كنت بجانبك، أتنفس الأمان دون أن أعرف اسمه، أعيش الحماية دون أن أدرك أنها نعمة مؤقتة.
لم أكن أعلم أن هذه المشاوير الصغيرة ستصبح لاحقًا أكبر من عمري، وأن صوت المطر الذي كان يسعدك سيصبح أكثر ما يوجعني، لأن كل قطرة الآن تقول لي إنك لست هنا، وإن المقعد الذي كنت تجلس عليه أصبح فارغًا بطريقة لا تُحتمل، فراغ لا يُرى بالعين، لكنه يضغط على الصدر حتى يصعب التنفس.
اليوم، المطر لا يمرّ عليّ، بل يمرّ بي، يخترقني، يفتح أبواب الذكريات التي حاولت إغلاقها، لا ليسكنها، بل ليقلبها، ليعيد ترتيبها بشكل مؤلم، يجعلني أتذكر تفاصيل لم أكن أظن أنها ستؤلمني إلى هذا الحد؛ نبرة صوتك، طريقة سكوتك، إحساس وجودك الذي كان يجعل كل شيء أقل خوفًا، وأدرك متأخرة أن الأمان حين يرحل لا يترك بديلًا.
اشتياقي لك ليس حنينًا عاديًا، هو فراغ، هو ثقل، هو شعور بأن شيئًا أساسيًا قد انتُزع من داخلي دون استئذان، كأنني فقدت جزءًا من توازني، جزءًا من ثباتي، جزءًا من قدرتي على الاحتمال، مذكّراتي امتلأت بك، ليس لأنني أحب الكتابة فقط ، بل لأنني لا أعرف كيف أعيش بدون أن أكتبك، أكتب عنك ألف مرة في اليوم، وفي كل مرة أكتشف أن الكلمات لا تُخفف، بل تفضح حجم الخسارة.
كنت أظن أن الكتابة ستشبه الضماد، ثم اكتشفت أنها تشبه المرآة، تُريني وجعي كاملًا، دون رتوش، دون تخفيف، تُريني أنني ما زلت تلك الحفيدة التي تبحث عن جدّها في كل مكان، في الطرقات، في المقاعد، في صوت المطر، في الدعاء، في الفراغ، وتفشل في إيجاده، فتعود محمّلة بالخذلان.
غيابك يا جدي لم يكن رحيل شخص، كان انهيار نظام كامل، كنتَ الثبات الذي لا أفكر فيه، والآن أفكر فيه في كل شيء، كنتَ الدعامة الصامتة، وحين سقطت، سقط معها شعوري بالأمان، صرت أعيش وأنا أفتقدك في تفاصيل لا تخطر على بال أحد، أفتقدك في الأشياء التي لا تُقال، في اللحظات التي كنتَ تجعلها أسهل فقط بوجودك.
المطر لا يجعلني أبكي لأنني حزينة، بل لأنه صادق، لأنه لا يترك لي فرصة للكذب على نفسي، يقول لي بوضوح مؤلم: أنتِ ما زلتِ مكسورة، أنتِ ما زلتِ تشتاقين، أنتِ ما زلتِ لم تتصالحي مع فكرة أنك لن تسمعي صوته مرة أخرى، ولن تري ابتسامته، ولن تشعري بذلك الاطمئنان الذي كان يسبق كل شيء.
أقف هنا، في السيارة، والمطر يملأ المكان، وأشعر أنني طفلة من جديد، طفلة فقدت يدًا كانت تمسك بها في الزحام، وتنظر حولها ولا تجدها، تنادي بصوت منخفض، ثم أعلى، ثم تصمت حين تدرك أن الصوت لن يعود، وأن النداء لن يُجاب.
يا جدي، أنت لم تذهب، أنت انغرست في داخلي، صرت ثِقلًا جميلًا ومؤلمًا في آنٍ واحد، صرت ذكرى لا تهدأ، صرت وجعًا ناعمًا لا يصرخ لكنه لا ينام، صرت مطرًا، وكل مرة تمطر السماء أشعر أن قلبي يُفتح بالقوة، وأنني أعيش فقدك من جديد، بنفس الطراوة، بنفس الألم، كأن الزمن لم يمر.
وفي كل مرة أظن أنني تعودت، يأتي المطر ليكسر هذه الكذبة، ليقول لي إن بعض الفقد لا يُشفى، وإن بعض الغياب لا يُتجاوز، وإن الحفيدة التي فقدت جدّها لا تكبر تمامًا، يبقى في داخلها فراغ على هيئة رجل كان يعني العالم كله.
أنا لا أطلب أن يخف الوجع، لأنني أخاف إن خفّ أن يبهت حضورك، لكنني أعترف فقط أنني متعبة، متعبة من الاشتياق، من التظاهر بالقوة، من حملك في قلبي كذكرى لا مكان لها إلا الألم، وكلما هدأ المطر، وكلما صمت الطريق، أدرك أن حزني عليك ليس مرحلة، بل حالة، وأنني سأحبك وأفتقدك وأبكيك بصمت… ما حييت.
0 Comments